رائدات - الامارات:صناعة القش.. عودة إلى روح التراث

الأحد, 02-ديسمبر-2012
رائدات -
الحياة في الفترات القديمة وسائل كثيرة أصبحت الآن جزءاً من التراث الشعبي، وحققت امتداداً في الزمن المعاصر. وضمن حركة تجديد الإبداع التراثي الناتج عن المهن اليدوية المتعددة، تظهر المنحوتات والزخارف والأقمشة والأدوات المعدنية والفخارية والزجاجية، لتجد مكانها المناسب ضمن اهتمامات المجتمع الحديث، وتفرض مصنوعات القش وجودها في الزمن الحالي من خلال أشكال مستحدثة لتتناسب مع احتياجات الحياة العصرية بعدما حولتها الأيدي الماهرة إلى أطباق ملونة وأدوات منزلية شديدة الجمالية، فظل القش محافظاً على مكانته واحتل مساحات واسعة بين الوسائل المستعملة والديكورات الحديثة لترتفع مصنوعاته فوق جدران المنازل إلى جانب اللوحات والتحف.

وفي الربع الأخير من القرن العشرين برزت حرف يدوية عدة تتميز بفنيتها وأشكالها الإبداعية، ومنها حرفة صناعة القش التي كانت سائدة في معظم الأرياف السورية، وفي أحياء المدن القديمة، باعتبارها تنتج وسائل صالحة للاستعمال في البيوت، فتدخل في أثاث المنزل وتصبح ضمن احتياجات سيدة البيت، لذلك تحرص بعض النساء على صنع أدوات القش لملء أوقات الفراغ وإنجاز أشكال ورسوم جذابة.

وكانت هذه الحرفة تشكّل لقاءات للنساء والفتيات الريفيات اللواتي يجتمعن في البيوت الطينية، أو على المصاطب تحت أشجار التوت والسنديان، أو في الصالونات الريفية الواسعة. وكانت تتخلل هذه المجالس الأحاديث والقصص المتبادلة وأخبار الناس، بينما تمتلئ هذه الأجواء بالمنافسات الحادة لإنجاز مصنوعات القش بسرعة قصوى، وابتكار رسوم جديدة يتم إدخالها على السلال والأطباق. وغالباً ما تستعمل هذه الأطباق والسلال لقطاف التين والعنب، لذلك تسرع الأيدي في صناعتها قبل موسم القطاف. كما توضع الحبوب كالحنطة والحمص والعدس في هذه السلال، وغالباً يتضح الحرص على صنع الأطباق الملونة بعد صبغ القش بألوان متعددة لأنها تخصص للطعام أيضاً، ويجب أن تكون متميزة عن الأدوات التي تستعمل في الحقول والبساتين، حيث تحتاج إلى الجمال اللوني والشكلي بالإضافة إلى حاجتها للمهارة الشديدة ودقة الصنع وجودة أعواد القش المستعملة في صناعتها.

وسائل بديلة : وتراجعت هذه الحرفة كثيراً بعد ظهور وسائل بديلة وجديدة، ولم يبق لها أثر يذكر في أكثر المناطق الريفية بعدما دخلت العادات المدنية إلى البيوت والحياة العامة، حيث اعتمد المزارعون في حصاد القمح على الحصادة الآلية التي تنزع الحبوب فلا تغدو السنابل صالحة لصناعة القش، إلا أنه مازال هناك بعض المهتمين بصناعات القش بعدما أعادت وجودها بشكل مختلف، وبدأت تحقق البيع المستمر بمصنوعاتها المتطورة.

وفي لقاءات متعددة مع حرفيين يتميزون في صناعة أدوات القش، أكدت سلمى داهوك أن صناعة أطباق القش التي استعملت فترة طويلة في الأرياف خلال الستينات وحتى الثمانينات، كما استعملت في البيوت العربية القديمة، عادت إلى الواجهة بعد تعدد استعمالاتها، وتضيف : “كان الطبق المصنوع من القش مخصصاً لتقديم وجبات الطعام الرئيسية فقط، وهي الفطور والغداء والعشاء، بالإضافة إلى الاستعمالات المنزلية الأخرى. كما كان طبق القش ينتقل من البيت إلى الأرض الزراعية، محمولاً فوق رأس المرأة الريفية، أما الآن فأصبح استعماله نادراً ضمن البيوت، لكنه أصبح عبارة عن لوحة تراثية متميزة برسومها المختلفة وألوانها الجميلة، وتعلق على جدران المنازل كجزء من الديكورات الحديثة”.

ويقول الحرفي فريد هندي: إن هذه الصناعة اليدوية ارتبطت بالريف سابقاً، وأساسها القش المستخرج من عيدان القمح والذرة والشعير، وهذه المادة النباتية البسيطة يتم إنتاجها بعد الحصاد بالطريقة اليدوية، أي بالمنجل، وتأخذ المرأة الريفية السنابل التي تراها مناسبة لصنع الأطباق، وأفضلها السنابل ذات الساق الطويلة والرفيعة، ثم تقوم بفصل رؤوس السنابل عن الساق، وتنزع عنها الأغلفة التي تبطن الساق، فتكون عيدان القمح هي المخلفات المهملة من محصوله المخصص للطعام، ولكن تتم الاستفادة منها بصنع أدوات مفيدة من القش يحتاجها البيت دائماً، ويضيف: “ورغم بساطة هذه المادة والإحساس بأنها من المهملات إلا أنها تشكّل المادة الأساسية والدائمة لصناعة يدوية فولكلورية مارستها النساء الريفيات بشكل خاص، ونمارسها الآن لنصنع أشكالاً جميلة عدة بعدما أصبحت مصنوعات القش من التراثيات المشهورة”.

إجادة وابتكار: أما عن علاقة المهنيين بهذا النوع من الصناعة التراثية، فيقول فريد هندي: “بدأت أعمل بهذه المهنة منذ كان عمري 15 سنة، وأحببت هذه الصناعة كونها مهنة يدوية تتطلب الإجادة والابتكار، وتملأ الفراغ بعمل مفيد، وكون المادة الأولية متوافرة في المناطق الريفية بكثرة، وبدأت تتناقص وتتراجع حالياً بسبب اعتماد أكثر الفلاحين على الحصاد الآلي، لكننا نحصل على حاجتنا من سنابل القمح لنحقق الاستمرار لمهنتنا المتوارثة والحائزة لاقتناعنا وإعجابنا بعدما بدأت تحقق الرواج وتنال رضا السياح وتعتبر من الفولكلور القديم”.

وعن المراحل التي تمر بها صناعة القش، يقول أحمد سجعان المتخصص في هذه الصناعة منذ سنوات عدة: “نأتي بالقش المناسب لهذه الصناعة، ونقوم بتنظيفه في مغاسل واسعة ببطء، ونفرزه، ونزيل عنه بقايا آثار الحصاد، ثم نجري عليه عملية الصبغ والتلوين بعد وضعه داخل إناء نحاسي فوق النار مع الصبغة والماء وكمية من الملح، ثم نثبّت الألوان بشكل جيد حتى لا تمتزج، وبعد الغلي نجفف القش الملون تحت أشعة الشمس، ثم نبدأ بعملية التصنيع فنقوم بوضع القش الذي نحتاجه للعمل الفوري بالماء البارد خلال فترة ساعة، ونرفع القش من الماء ونتركه ليجف، ثم نصنع النموذج المطلوب، وغالباً تكون أكثر النماذج غير مهيأة للاستعمال المنزلي الخاص كما كان يحدث في الماضي حينما كانت الأطباق والسلال من أدوات الطعام الأساسية أو مخصصة لنقل محصول الحقل، والآن نجهزها للزينة والديكور لأن أدوات القش تعيد ذاكرة الإنسان المعاصر إلى الماضي الجميل. وعن متطلبات مهنة صناعة القش يقول الحرفي في سوق الصناعات اليدوية محمد برهومي: “يجب أن يكون القش طرياً ومطواعاً أثناء عملية الصناعة، وعندما أصنع نموذجاً أقوم بعملية تداخل الألوان حسب انسجامها مع بعضها بعضاً، وأبتكر من مخيلتي رسومات معينة ثم أنقلها إلى الورق وأنفّذها على لوحة فنية مصنوعة من القش، وأحياناً أستفيد من اللوحات التشكيلية ولوحات الخط العربي وأنقل بعض محتوياتها إلى أطباق القش فأحقق المهمة الفنية لهذه الصناعة”.
تمت طباعة الخبر في: السبت, 04-مايو-2024 الساعة: 02:56 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: https://www.raedat.com/news-85.htm