رائدات - النِّساء التونسيات جوهر الدستور القادم

الثلاثاء, 06-يناير-2015
رائدات / تونس -
تدرّجت الأحداث في تونس بعد الإطاح بالنظام السابق يوم 14/01/2011، ففي مرحلة أولى، تمّ الإعلان عن تشكيل حكومة وحدة وطنية تحت رئاسة آخر رئيس وزراء في العهد السابق، وبمشاركة أطراف من المعارضة، وأعلن عن التركيبة الأولى لهذه الحكومة بتاريخ 16/01/2011، وتولّى المناصب الرئيسية فيها أشخاص ينتمون إلى الحزب الحاكم سابقا، ثمّ تحت ضغط الشارع وبسبب تنامي الدعوات إلى حلّ الحزب الحاكم سابقا، أعلنت تشكيلة ثانية بتاريخ27/01/2011، كان نصيب المعارضة فيها أكثر أهمية، مع المحافظة على رئيس الوزراء نفسه.
تمثّل الحدث الفارق بعد ذلك في تنظيم اعتصام شعبي دعي "القصبة 2" (إشارة إلى مقرّ الحكومة حيث وقع الاعتصام)، وتواصل الضغط عدّة أيام وتعطّل عمل الحكومة فرضخت للمحتجّين واستقالت، وأعلن الرئيس المؤقت (وهو رئيس البرلمان قبل الثورة) عن هذه الاستقالة وعن حلّ مجلسي النواب والمستشارين وتنظيم انتخابات لمجلس تأسيسي يتولّى تحرير دستور جديد يعوّض الدستور السابق الذي كان قد صاغه مجلس دستوري أيضا، انعقد في الفترة المتراوحة بين 1956 و1959.
أعلن موعد انتخابات المجلس التأسيسي ليوم 24/07/2011، ثمّ أجّل ليوم 23/10/2011. وفي الأثناء، شهدت الساحة التونسيّة نقاشا دستوريا لم يقتصر على المتخصّصين في القانون الدستوري بل تعدّاهم إلى مناضلي الأحزاب والمنظّمات والجمعيات، وطرحت العديد من المشاريع الدستورية، ونستشفّ بالمقارنة بينها أنّها كانت متقاربة ومصاغة على أسس الدستور الحديث، إذا استثنينا الدستور الذي تقدّم به "حزب التحرير"، وهي تواصل دستور 1959 في العديد من النواحي، وتختلف عنه من نواحي أخرى مهمة، أهمّها التخلّص من الصلاحيات الواسعة التي كانت ممنوحة لوظيفة رئاسة الجمهورية، وإدخال اللامركزيّة في التسيير، والتأكيد على الحقوق السياسية.
من أهمّ المشاريع التي طرحت آنذاك ما صاغته "لجنة الخبراء" التي ترأّسها أستاذ القانون الدستوري عياض بن عاشور وهو مشروع يمثّل وجهة النظر "الليبرالية" والعلمانية، لكنّه مصاغ بروح واقعية. فهو يحافظ على تحديد الهوية كما كان واردا في دستور 1959، مع إضافة مدنية الدولة لتصبح العبارة كما يلي:"تونس دولة مدنية حرّة مستقلّة ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها" (الفصل 19 من المشروع)، ويشير في التوطئة، ضمن المبادئ العامة الموجهة، إلى: "تعلقنا بقيم الإسلام الحضارية التي تشكل رافدا من روافد الحضارة العالمي"، ولا يخفى التوجّه هنا إلى تغليب جانب القيم والحضارة على جانب الدين، بالمعنى الضيّق، عند استعمال كلمة "إسلام" الواردة مرتين في نصّ المشروع. كما نجد تدقيقات دستورية أخرى مصاغة لصدّ كل توجّ للدولة الدينية، ومن أهمها الإعلان منذ التوطئة على الالتزام بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وجعله الموجّه لمفهوم الحريات الأساسيّة الفردية والجماعية".
أمّا أكثر المواطن إثارة فهو التنصيص على المساواة في الحقوق والواجبات بين النساء والرجال في كل الميادين بما فيها "مادة الأحوال الشخصية"، وهذا المقترح جريء بما أنه يطرح دون لبس قضية الميراث. بالمقابل، نجد أنه يكاد يخلو تماما من الإشارة إلى الحقوق الاجتماعية، مع أنّ المسار الدستوري لم ينشأ بمبادرة من أستاذة القانون الدستوري، وإنما كان الفضل الأكبر لحركة احتجاجية اجتماعية. وقد تمسّك أصحابه بالنظرية الدستورية الكلاسيكية التي ترى في الدستور وثيقة سياسية قبل كل شيء، مع أن تجارب الانتقال الديمقراطي في العديد من بلدان أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية قد أقحمت تصوّرا جديدا للدستور باعتباره وثيقة تحمل أيضا ضمانات اجتماعية، وهذا الوضع كان الأقرب إلى الظرفية التونسية التي تنزّل فيها هذا المقترح الدستوري.
مقابل هذا الدستور الذي صاغه الأستاذ عياض بن عاشور، ومجموعة من الخبراء حوله، يمكن أن نذكر مشروعا دستوريا صيغ قريبا من حزب "النهضة"، لكنّ الحزب لم يتبنّه رسميّا، كما لم يتبنّ غيره أيضا. وهنا نجد التقابل واضحا في الجانب الاجتماعي، إذ يفرط هذا المشروع في تعداد الإجراءات الاجتماعية إلى حدّ الخلط أحيانا بين المادة الدستورية والوعد الانتخابي.
أمّا في موضوع الدين، فمن الطبيعي أن نجد اهتماما أكبر، لكن مع ذلك لا يمكن القول أنه مشروع دستور دولة دينية. فهو يستعيد في فصله الأول الفصل "البورقيبي" نفسه الوارد في دستور 1959، أي اعتبار الإسلام دين تونس (بما تتضمنه العبارة من غموض مقصود بين دين الدولة ودين أغلبية المواطنين)، وفي قضية المساواة يستعمل عبارة "كل التونسيين متساوون أمام القانون" وهي لا تضمن المساواة واقعا، بما أن المساواة في القانون لا تلغي أن يكون القانون نفسه غير مساو بين أفراد المجتمع. ويتضمّن المشروع في فصله العاشر مبدأ "الشريعة الإسلامية مصدر أساسي من مصادر التشريع"، وهي صيغة مخفّفة في قضية الشريعة، بما أنها تعترف بوجود مصادر أخرى، كما أنها لا تحدّد "الشريعة" تحديدا واضحا. وتقيّد حريّة الفكر والتعبير والصحافة والنشر بمراعاة مقدسات جميع الشعوب والأديان، وقد أراد أصحاب هذا المقترح أن يبدوا بهيئة التسامح مع كل الأديان، ولم ينتبهوا إلى أنّ مراعاة مقدّسات كل الأديان في نفس الوقت عملية مستحيلة (القول مثلا بنسخ الإسلام للأديان السابقة يمثل تعديا على تلك الأديان).
تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 03-مايو-2024 الساعة: 08:41 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: https://www.raedat.com/news-531.htm