رائدات - " مُحَاكَاة " قصة جديدة للدكتورة غادة العبسى

الأحد, 12-يناير-2014
رائدات/القاهرة -
"كنتُ نائماً أستغرق فى حلمٍ عميق لا أذكره , سأتذكرّه حتماً ما إن لامست رأسى الوسادة فى آخر ليل اليوم ,هكذا يحدث .. فتّحت عينيّ ..احتجتُ الآن إلى تشديد تاء "فتّحت" ,لأننى شممتُ عطر النرجس ..أمسكَتْ هاتفها ببطء متعمّد , أرادت أن تكون بطيئة اليوم ..لا بل كسولة تكون أدق ..كسل أنثوى يتدلل على الأشياء ..قرأت شيئاً بشغف وابتسمَت..

قامت ولم تنفض كسلها بعد ..نثرت شعرها ثم تحسسته من جذوره حتى الأطراف ..ظلت تعبث بخصلاته ..لملمته ناحية اليسار وتركته ينسدل على كتفيها ..نثر ذلك عطرها من جديد فتسلل إلىّ ..سارت حافيةً إلى المرآة الطويلة ..نظرت طويلاً فوجدت بقايا الكحل النحيل باهتاً فى عينيها وخاصةً عند الزاويتين .. "وجديلة ديل الكحيلة" همست روحى ..

مسحت بأناملها بعض الدهن عن وجنتيها اللامعتين كأنما ترسم فراشة ..بلت شفتيها وانعكس ريقَها فى المرآة فوقهما ..كنتُ أحتاج إلى مزيد من الضوء ..شرّعت النافذة الخشبية وألقت نظرة راضية على شجرة الفل الصغيرة ثم عادت إلى المرآة مرة أخرى ..وجدتها وقد سُكِب ضوء الشمس فوقها , واختلط لون شعرها بشعاعها وظهرَت عيناها كلَوزتين ذائبتين فى عسل..والبريق فوق شفتيها كملمّع شفاه شفّاف للمراهقات .

فتحت التلفاز ..وجدتهم يثرثرون ..فضغطت الزر الذى يحوّل التلفاز إلى راديو ..البرنامج الموسيقى يعزف شيئاً ل"باخ" على ما أعتقد ..راديو كايرو فى ساعته الفرنسية ..ثم :"مَرق الصيف بمواعيده ...والهوى لملم عناقيده ..وما عرفنا خبر ...عنك يا قمر " تنهدت طويلاً ..وتركَت الريموت ..وحمدت فترة فيروز الصباحية على إذاعة الأغانى ..وظل ّ صوت البيانو القديم يتلاعب بأذنى ويعزف فوق قلبى ..بدأت ترشف الكابتشينو وتخيلتنى معها فى شرفةٍ حلبِية أهمس لها : أنتِ من حواء أنها كل النساء ...وأصل البقاء ...وأنتِ منها أنها أمى ...وأحبُّ أن تستيقظى قبلى ..مثلها خرجَت لتوها..من ضلع آدم ..كل يوم ..وهو نائم .."..

"أراه من تحت الغطاء المخملىّ يتلصص علىّ ..عيناه السوداوان كما هما ..أتذكر حيرتى فى أول مرة رأيتهما .. هل هما بلون أبى الألوان ..الأسود؟ الذى يمتص كل الألوان بداخله ؟ مثل آدم ؟ بالطبع كانت عيناه سوداوين ..هو مثله عَجُول أيضا, لما نزلت الروح فى عينيه ونظر إلى ثمار الجنة بدأ يتأملها ولما وصلت الروح إلى جوفه اشتهى الطعام وأراد أن يثب ليأخذه ولم تكن الروح قد وصلت إلى رجليه ..

أم تراهما بلون طفولتى؟ البنى الداكن ..لون مريلتى ولون رابطة عنقى ولون جبل الطور ولون أغلب شَعرى ؟ كنت أتمنى وقتها أن أخلع عنك نظارتك الطبية ..ها هى أهدابك تتكثف فى المنتصف ..سأجد هدبا نافرا إلى أعلى أكثر من الباقين ..سأحفظ جيداً تلك الفترة التى تضطر أن تطرف فيها ..سأعرف كيف تدمع عيناك قبلها من طول النظر ..كيف تنقّل ناظريك بين عينيّ فى ذات اللحظة ..جفناك يلمعان إذا أغمضت ..سأقترب منك ولا أدعك تفتحهما ستضطرب قليلاً ولن تفهم لماذا ..أقبّل الجفنين الأنورين بالتناوب قبلتين طويلتين وليذهب لحن عبد الوهاب إلى الجحيم وهو يقول "بلاش تبوسنى فى عنيي دى البوسة فى العين تفرق" والذى أبصره يجرى أمامى فى رأسك الجميل ..أهمس بين قبلتىْ "بوّسلى عينيه وقِله انى ببوس عينيه" ..قوسا حاجبيك الكثيفين ..العجيبين ..أريد أن أتحسسهما بإبهامىّ وأفرك زيتَهما بين أناملى ..وأدهن به حاجبىّ..منبت شعرك ..يا رجلا لا يشيب ..وأنفك مثل أنفى رومانى ..هنا كنت أريد أن أطيل النظر يا عذيب المرشف ! أرْنى ذلك الشّق الذى شَق روحى إلى نصفين فى منتصف أسنانك ..يقولون عن صاحبه أنه يظفر برزق وفير ..أريد أن أمطرك برزق وفير من القبلات ..".

"تلك التى لا تثنى الطرف إلا قليلاً ..تلك التى لم تكن لتغمض عينيها وتطيل النظر إلى وجهى حتى يصيح قلبى :"لحظٌ رنا ..قوس رمى ..سهماً أصاب مهجتى" ..لازلتُ أتحسس موضع سهمك ..علت دقاته ..جُل ما تمنيت أن تنام راحتك فوق صدرى ...أنعشى هذا القلب ان كنتِ تخشين عليه الركود والموت الحى والخيبة والحزن .. أغلقته عليكِ واحتجزتكِ فى الداخل..تيّمتنى شامةٌ داكنة أسفل رقبتك ..خشيتُ عليكِ من نفسى ..من وهجى .."..

"أقدر تلك القفزة التى جعلتك تطلب صورتى دون مناسبة ..أعجبنى أن تطلب منى صورة للعينين فقط مهما كلّفك ذلك مِن حجب جزء هام من وجهى فى صورةٍ قد تكون الوحيدة التى أهبك إياها, كان من المفترض أن تصير مكتملة بملامحى ..أنت تصدّر لى الفكرة التى تستهوينى ثم تقوم بتهذيبها وتخفف من حدتها ..هل أكذب وأقول أنه لم يُذبنى أن تذكر ذلك البيت من أغنيتى المفضلة " لى حبيب حبه وسط الحشا ..إن يشا يمشى على (قلبى) مشى " وان كان ذلك من باب المجاملة الرقيقة أو حتى من باب الهدية..استحييتُ أن أصحّح لك (قلبى) ب(خدى) , عندما تخيلت المشهد ..كان أيسر على عقلى أن تبقى (قلبى) وان لم تكن أيسر على قلبى !

قلتَ لى "اقرأينى"..كنت مثير للقراءة ..مثير للاكتشاف ..ماذا بداخل الصندوق الأسود؟ ما مُلابسَات كل هذا الحزن العميق المرئىّ والمسموع ؟ أى الحبيبات.. وأى الخيبات.. وأى الخسارات فَعَل بك هذا؟ لستَ مفتضحَ الحزن ..بل مقاومتك إياه هى المفتضحة ..تعبيرات وجهك بها كرّ وفرّ فلا يُفضيان إلى شىء .. كنت أهمس لنفسى :أنا امرأة غارقة فى كآبتى, ما الذى يحملنى على "خربشة" قشرتك الخارجية لأرى ما تحتها؟! متى سيظهر التنين الأحمر القابع تحت جلدتِك؟"..

"أستطيع أن أنهض الآن , أعد الإفطار على الطريقة التى أحبها فى غيابها ..أفترش تلك المنشفة التى تنظّف بها وجهها بماء الورد كل ليلة وتنساها ..مثلى ..بقع كحل الإثمد الأصفهانى يلطّخ المنشفة الوردية ..أقبّل بقاياه قبل أن أضع أطباق فطورى فوقها ..يتصاعد ماء الورد المنسىّ إلى دواخلى ممتزجاً مع طعامى ..هكذا أُطعم منها دون أن تدرى" ..
تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 17-مايو-2024 الساعة: 07:18 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: https://www.raedat.com/news-244.htm