رائدات - رائدات

الثلاثاء, 17-أكتوبر-2017
رائدات / د .خالد عبدالغني -
الموت والقتل والانتحار ثلاث كلمات سيطرت على نهاية كل أبطال هذه القصة عبر تاريخ إحدى العائلات – عائلة فريدة خلال مئتي عام تقريبا – كدلالة حتمية على معرفة القبح داخل نفوس أفراد تلك العائلة الرمزية المعبرة عن كل العائلات ، وقد جاءت القصة في قالب من السرد التاريخي عن الرغبة في معرفة الماضي والمستقبل باعتبار – تلك المعرفة – من وسائل السرور والفرح – لنكتشف تضاد ذلك الفرح – عندما تمت المعرفة
، فتحكي قصة "تعويذة علام" وهي القصة الأولى في المجموعة التي حملت نفس الاسم "تعويذة علام" لـ علياء هيكل عن فريدة فتقول :" منذ أيام قليلة توفيت جدتي «رقية» جدتي لأمي تاركة لي الوحدة وشعورًا عميقًا بالغربة من دونها..كانت هي صديقتي وأمي التي احتوتني بعدما تُوفيَّت أمي وكنت لا أزال وقتها في الثانية من عمري وقد بلغت الآن السابعة والعشرين.. قالت لي جدتي إن أمي توفيت على أثر حمى شديدة أصابتها، ولم يستطع الأطباء علاجها.... وماتت وهي توصيني بوصية غريبة..!! قالت أربعة كلمات فقط " ارمي كل اللي في البدروم ومتفتحيش مقفول ولا تنبشي مردوم "، وفتحت فريدة الصندوق فوجدت فيه ورقة صغيرة مصفرة اللون..! على ما يبدو أنها قد كتبت منذ وقت طويل، وقد طويت ووُضعَت فوق قطعة من القطيفة الحمراء والتي لُف بها على ما يبدو شيء معدني من الفضة قد ظهر جزء منه من بين ثنايا القماش.. ودون تردد كشفت عن ذلك الشيء..فوجدته مرآة..! نعم إنها مرآة.. واستعجبت.. لم كل هذا الحرص والاهتمام لمرآة..؟! وزاد تعجبي عندما لم أجد شيئًا آخر سوى المرآة والورقة الصفراء القديمة..!
هذا كل ما بالصندوق.. ورقة صفراء ومرآة..! فأما الورقة الصفراء فقد كتب عليها :" «حبيبتي ليلى ... قد تستغربين من رسالتي هذه المرفقة مع المرآة، لا تستغربين نعم إنها مرآة ولكنها ليست كأية مرآة.. فإن حرصتِ عليها حرصت عليكِ وأرتكِ ما لم يرَه إنسان، وإن أهملتِها أهلكتكِ وأرتكِ ما لم يود أن يراه إنس ولا جان.. هذه المرآة ترين فيها كل شيء.. كل شيء.. فاحرصي ألا يراها أحدٌ غيرك ولا ترثها بعد موتك إلا من تحمل دمك.. حافظي على سرها ولا تكسريها فتكسرك... جدتك فاطمة – 17 اكتوبر 1708»
وسترى المؤلفة / الراوية / فريدة أيضا في هذه المرأة كل المآسي والتارخ المؤلم لعائلتها وكيف قتل جدها الكبير جدتها و كيف ظهرت الخيانة في تاريخ عائلتها للدرجة التي جعلت ابوها يخون أمها مع أختها / خالة فريدة / فتموت الأخت وتنتحر الأم وتقتل الجدة والد فريدة انتقاما لبنتيها بوضع السم في القهوة . وحول ذلك تقول فريدة عن أمها :" ما زال أبي واقفاً في مكانه عند باب الشقة، لم يتحرك.. ! تقترب من باب غرفة النوم التي يخرج منها ضوء خافت.. تنظر في حسره يعتصرها الألم إلى الفتاة المضجعة وهي شِبه عارية على السرير..!
ما هذا؟! إنها زهرة خالتي..!!
تنتبه زهرة إلى أمي الواقفة عند باب الغرفة.. فينخلع قلبها هلعًا، فتخرج من صدرها شهقة عالية.. وهي تضع يدها على فمها.. وتتجمد هي الأخرى على تلك الحال..!
تتراجع أمي المسكينة بكل هدوء في انكسار وحسرة تلفها حيبة الأمل وهي تجرجر في قدميها، محاولة أن تخرج من هذا المكان..!
تخرج من باب العمارة متجهة إلى سيارتها التي تركتها حتى دون أن تغلقها.. الدموع تتساقط من عينيها.. تحاول أن تمسحها بيديها فتغالبها الدموع..فسمعت صوت صرخة عالية.. تبعها صوت ارتطام قوي على الأرض.. التفتت أمي وراءها في حزنٍ.. لترى أختها ملقاة على وجهها وقد تدفقت الدماء بغزارة منها..لم تستطع البكاء في تلك اللحظة كانت الفاجعة أقوى من أي دموع... وانطلقت بسيارتها مسرعة وهي لا تكاد ترى أمامها من كثرة الدموع التي أغشت عينيها.. ولكن.. احترسي يا أمي.. احترسي.. أمي.. أمي.. لا.. لا.. ! اندفعت بسيارتها لتسقطت بإرادتها في مياه الترعة.. أرادت أن تنهي حياتها المحطَّمة بنفسها!
وفي المعرفة يكمن الشقاء والأسى أيضا فماذا كان مصير أوديب حين سعى لمعرفة ذاته أكثر وأكثر ؟ كان مصيره الهلاك كما تحكي لنا الأسطورة ، وهذا الهلاك كان جزاء كل من امتلك المعرفة /المرآة/ فيما بعد تأكيدا لهذا المعني "المعرفة الهلاك" وعندما توصلت فريدة للمعرفة وتأكدت منها كان هلاكها أيضا ، وذلك حال الأميرة "فائقة" المالكة الأولى للمرآة عندما طلبت من علام أن يصنع لها مرآة تريها الماضي ، فكان جزاؤها الهلاك نتيجة المعرفة ، وتقول الراوية على لسان فائقة :" حين أمرتك أن تصنع لي مرآة أرى فيها الحقيقة فكان غاية ذلك أن تعلمني الحكمة.. لا أن تجلب لي الحزن..! المرآة ترني الماضي كله بآلامه..ماضٍ لم أكن فيه ولم أعشه.. أراها تجبرني على أن أعيشه وأشعر بكل حدث فيه..»
علام وهو مبتسم ابتسامة واثقة حكيمة: «أميرتي.. كان طلبك أن تعرفي أكثر عن نفسك، ولكي يتعرف الإنسان على كينونته لابد من الغوص في بحار الماضي.. قد تحزنين.. مما ستراه عيناكِ.. وتتألمين من أفعال بعض البشر.. وستندهشين مما تخفيه نفوسهم.. وسترين أيضًا أن الخير قليل جدًّا.. وفي كثير من الأحيان سيكون الشر أقوى.. والحزن هو طريق الحكمة.. وحينها ستتعلمين أكثر وستعرفين حقًّا من أنت..!» «فائقة» وقد بدت عليها الحيرة: «كنت أظن أن رؤية الماضي مسلية وممتعة، وأنني سأكتسب الحكمة من رؤية تجارب السابقين.. ولكني لم أعايش سوى تجارب حزينة مؤلمة.. مخزية..! لا أستطيع استيعابها «
وحين اكتملت المعرفة لدى فريدة ورأت اللاشعور متجسدا في المرآة ساعتها لم يتبق أمامها إلا الهلاك فقد عرفت الذات لاشعورها ، بل وعشقت نفسها وعاشت عزلتها كما نرجس أيضا :" فمدت يدها في بطء وأمسكت بها في حذر ممزوج بالخوف ..ترجلت من سيارتها التي تركت بابها مفتوحاً ورائها وتمشي بهدوء شارد إلى السور الحديدي الذي يفصل بينها وبين النهر.. تنظر إلى الأسفل.. لتجد صفحة الماء قاتمة مصمتة لم تكن أكثر رعبًا من صفحة المرآة ساعتها.. تتسلق فريدة السور..! وبعد نظرة خاطفة إلى المرآة ثم إلى السماء وكأنها تتوسل العفو والرحمة من الله.. ودون تردد ألقت بنفسها إلى النهر وهي تحتضن المرآة..

تمت طباعة الخبر في: السبت, 20-أبريل-2024 الساعة: 02:28 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: https://www.raedat.com/news-1188.htm