رائدات /بقلم :زينب عيسي - منذ قرابة الستين عاما وفي عام 1956 بالتحديد فاجأت امرأة الكاتب الكبير مصطفي أمين بدخولها إلي مكتبه بمؤسسة أخبار اليوم تشكو إليه جزعها وقسوة أيامها وجفاء أبنائها بعد أن ترملت عليهم فإذا بهم يهجرونها كما هجرتها البسمة بعد أن مات عنها زوجها وقامت بدور الأم والأب وظلت ترعاهم بكل ما أوتيت من جهد ومال وصحة حتي شب عودهم فنكروها وبادلوها الجفاء مقام العطاء فلم تعد تراهم إلاعلي فترات متباعدة،فأصابه الهلع وكتب وقتها مصطفي أمين وأخيه علي أمين في عمودهما الشهير "فكرة" يقترحان تخصيص يوم تكرم فيه لأم ويكون بمثابة اعتراف بفضلها علي الأبناء والمجتمع ،ولاقي الاقتراح قبولا لدي القراء وتم تخصيص يوم 21 مارس من كل عام للاحتفاء بالأم ومنذ ذلك التاريخ ومصر والبلاد العربية تحتفل بعيد الأم في هذاالوقت من كل عام ، ذلك اليوم الذي تحل ذكراه عربيا ، وان اختلف توقيته في بلدان العالم لكنه يتحد في المعني .
ورغم أن تلك المناسبة العطرة التي تعد تذكيرا بعطاء الأم نبع الحنان وأصل التضحية ، بيد أن الاحتفاء بها في يوم واحد من كل عام لايعد إنصافا لفضلها .هل تكفي سويعات قليلة للتعبير عن العرفان بفضل صاحبة القامة والقيمة العظيمة التي كرمتها كل الأديان السماوية وأنصفها الدين الإسلامي الحنيف في مواضع كثيرة ، وذكرها المولي جل شأنه في محكم آياته الكريمة حين قال " وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً". وخير دليل وأجل تبجيل للام ما ورد عن نبينا المصطفي وأوصي به عليها أفضل الصلوات والسلام ..فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:جاء رجل إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال:يارسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟فقال:أمك،ثم قال:ثم من ؟قال:ثم أمك،قال ثم من؟قال:ثم أمك،قال:ثم من؟قال:ثم أبوك.
هل يكفي يوم واحد من كل عام لتكريم أصل الكون ورائدة العطاء الإنساني.إذا ما قورن بفضلها ودورها في حياة أبنائها وأسرتها وهو مالايجزيه أي تكريم؟ ،هل سأمت الأم يوما من العطاء كي نذكرها مرة واحدة كل عام ؟ ،هل كلت من حملها الثقيل في رعاية أطفالها داخل بيتها وتوفير سبل العيش ومساندة زوجها خارجه .كي نرد لها الجميل في مناسبة منفردة ؟ فقدسية الأم ليست مرتبطة بمواسم الهدايا ،ورسائل الموبيل ومعايدات الصقيع التي فرضتها سهولة وسائل التواصل الملعونة التي فرغت تلك المناسبة من مضمونها ،الأمومة هي مرادف الريادة في المعني والمضمون والام رمز العطاء والمنح والبذل .هي الغافرة مهما أساء الأبناء ، الرحيمة مهما عظمت الزلات ،و إن قست تقسو لتحنو وان تجاوزت تتجاوز لتعلم وتربي . هي القيمة الاستثنائية في حياة كل واحد منا والشخص الوحيد في الكون الذي يبذل العطاء للأبناء دون مقابل ويركب الصعاب ويتحمل الأهوال ليراهم في مكانة أفضل من الجميع .وفي ذلك العطاء تستوي كل النساء وزيرة أم سفيرة ام بائعة خبز فقيرة ،كلهن يزرفن الدمع من اجل أبنائهن في أفراحهم وشقائهم ..بقربهم وغيابهم ..في وصلهم وهجرهم.
وان كان للاحتفاء بيوم عيد الأم فضل يضاف إلي ذلك أنه يجدد في ذاكرتنا ودفاتر التاريخ صورة لنماذج أمهات قدمن للبشرية أعظم التضحيات تأتي في مقدمتهن أشهر الأمهات علي الإطلاق السيدة مريم البتول بنت آل عمران التي تحملت من قومها التعريض بعفتها وعانت بالمعجزة التي جلبتها إلي العالم بنفحة إلهية السيد المسيح عليهماالسلام فنسبها طاهر عن طاهر عن طاهر ، وقد ذكرت في القرآن لطهارتها وقال عنها سبحانه وتعالي " وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ "، ومن أمهات المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله عليه أفضل الصلوات والسلام وأم أبنائه والتي لقيت الكثير رضي الله عنها وآوت الرسول وصدقته حين كذبه الناس ،وشاركت النبي صلى الله عليه وسلم في جهاده ضد المشركين في أشد فترة خلال فترة الدعوة السرية، والحصار في مكة، وقد شكَّل مالها مدداً فعلياً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والمحاصرين معه، وتحملَّت الأذى من نساء قريش على موقفها هذا ، وهاجر زوجة النبي إبراهيم وأم ولده نبي الله إسماعيل عليهما السلام التي قبلت ابتلاء الله بإيمان عظيم وهي وحيدة بوليدها وسط صحراء جرداء ،وهاهي أم نبي الله موسي التي تعرضت لامتحان ألهي لايتحمله بشر بأن تلقي برضيعها الي النهر لتنقذه من القتل علي يد فرعون مصر ، وزوجة الفرعون التي كفرت بألوهيته زوجها المزعومة ليضرب الله بها مثلا للمؤمنين عبر التاريخ الإنساني .
وقد أولي الإسلام النساء أهمية خاصة وكرمهن أفضل تكريم ،فمن لايذكرالشاعرة العربية الكبيرة الخنساء "تماضر بنت عمرو بن الحارث " التي رثت أخوها بالقصائد الشهيرة، وحفزت أبنائها ألاربعة للجهاد ومنيت باستشهادهم ، فقالت “الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مُستقرِ رحمته ،كما ضربت الأم مثالا رائعا في التضحية في العصر الحديث ، كصفية زغلول أم المصريين ،وهدي شعراوي ،وبنت الشاطئ وغيرهن كثيرات ،وربما تكون الكاتبة الشهيرة "إيزابيل الليندي" واحدة من أشهر الأمهات التي ظلت قابعة إلي جانب ابنتها التي تحتضر وكتبت رواية كاملة تحمل اسمها "باولا"حتي أسلمت الروح ، وكم من أمهات عظيمات كتبت أسمائهن بحروف من ذهب بفضل قوتهن وعزيمتهن وصبرهن بل منهن من غيرن مجري التاريخ وفيهن كثيرات ممن تنطبق عليهن مقولة نابليون بونابرت "إن المرأة التي تهز المهد بيمينها تهز العالم بشمالها". فهنيئا لمن جعلت الجنة تحت أقدامها ..من رعتنا حتي الممات ..من سهرت علينا وتحملت ليالي السهاد ..إلي كل الأمهات "يوم واحد للاحتفال بعظمتكن ورفعتكن لايكفي".
يرحب الموقع بآراء الزوار وتعليقاتهم حول هذه المادة تحديداً، دون الخروج عن موضوع المادة، كما نرجو منكم عدم استعمال ألفاظ خارجة عن حدود اللياقة حتي يتم نشر التعليق، وننوه أن التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الموقع.